بداية لا بُدَّ من التذكير بأن دعوة حزب البعث للنظام الإيراني كانت تحمل دائماً غصون الزيتون، واحترام المبادئ الإنسانية، والجنوح للسلم، وصيانة مبادئ حسن الجوار. بينما الرد الإيراني كان يحمل دائماً العداء والإمعان في العدوان على العراق والأمة العربية. وسننتقي من الذاكرة واقعتين مدونتين في تاريخ الصراع مع النظام الإيراني، يعود تاريخ الأولى للعام 1979، ويعود تاريخ الثانية للعام 2014.

بعد سقوط نظام شاه إيران في العام 1979، ووصول الخميني للسلطة، أرسل الرئيس صدام حسين رسالة تهنئة له بنجاح الثورة وتسلمه السلطة، متمنياً بأن تكون العلاقات بين الشعبين العراقي والإيراني مبنية على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف والجيرة الحسنة. وقد قال السيد موسى الموسوي (مستشار الخميني آنذاك)، بأن الخميني قال له بعد قراءة الرسالة، بأن صدام خائف لأن نسبة كبيرة من الشعب العراقي سيؤيده حالما ينادي بإسقاط النظام العراقي. وقد تضمن رد الخميني على رسالة صدام حسين تهديداً ووعيداً وختمها بجملة (والسلام على من اتبع الهدى)، وهي جملة تُقال لغير المسلم.

وبمناسبة العيد السابع والستين لتأسيس الحزب، دعا الرفيق عزت ابراهيم، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، النظام الإيراني: (إلى الرجوع إلى مبادئ وقيم الرسالة الإسلامية، والى مبادئ وقيم الجيرة الحسنة للعراق والأمة، لأنهم لا يستطيعون أن يرحلوا عن جيرتنا ولا نستطيع أن نرحل عن جيرتهم، … وإن لم يعودوا، سيبقى الصراع يتوسع ويتعمق… ويكفي تجارب وتحارب بين الأمتين، وإيقاف النزيف الدائم والصراع المتصاعد … وتجاوز الماضي السيء بكل مرارته، ونتجه إلى عهد جديد من العلاقات الأخوية التي تقوم على أساس المصالح المشتركة المشروعة، والاحترام المتبادل، والجيرة الحسنة، والأخوة في الدين، ..، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وخاصة دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية وسورية ولبنان واليمن). ولكن الرد الإيراني كان بتصعيد حالة العداء ضد العراق وحزب البعث، توهماً منه أن دعوات الحزب للجنوح للسلام تحمل ضعفاً وخوفاً.

بين دعوتي السلام، في العام 1979 والعام 2014، مسافة زمنية تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، لم ينس فيها الحزب صوت العقل والمبادئ، بينما لم يغادر النظام الإيراني موقع العداء والعدوان. وهذا بحد ذاته إدانة واضحة للنظام المذكور بأنه يركب موجة الحقد ضد كل ما هو عربي، وهو السبب الذي يدعوه إلى التعامي عن الدعوة لعلاقات عربية – إيرانية تحكمها المبادئ الإنسانية وحسن الجوار والعلاقات المتكافئة.

وإذا كنا نعيد التذكير بهذه الحقائق فإنما ليس لنرد على مواقف النظام العدائية، لأننا لم نعد نراهن على أنه سيستجيب لنداء العقل والضمير، فقد فرغ صبر الحزب من ذلك، وإنما لنضع حقيقة ساطعة أمام أنظار من عميت أبصارهم من بني قومنا عن رؤية مخاطر التدخل الإيراني في العراق وشؤون الأمة العربية، لعلَّهم يسدون له نصيحة الاستجابة في اللحظة الأخيرة، فيوفروا على العرب والإيرانيين أنهاراً من الدم العربي والدم الإيراني، التي لن تصب نتائجها سوى في مصلحة المحور الغربي – الصهيوني. ذلك المحور الذي يفرحه أن يسفح العربي دم أخيه العربي، وأن يسفح الإيراني دم جاره العربي، وأن يتلقى الشعب الإيراني آلافاً من جثث جنوده الذين يسقطون في العراق تحت حجة واهية أنهم يدافعون عن الأماكن المقدسة.

وإن كنا ما نزال نكرر دعواتنا للنظام الإيراني بالجنوح للسلم وترك العراق لأهله، فليس لضعف فينا، أو لخوف من قوة فيه، وإنما نكررها لأننا نجنح للسلم كمبدأ إنساني عام وكمبدأ إسلامي خاص، ولكننا في الوقت ذاته نُعِدُّ لهم جحافل من رباط الخيل الذي يمنعهم من تحقيق أحلامهم وضمان مصالحهم القائمة على البغي والعدوان.

إن ما يزعمون أنه ضعف فينا قد أثبتت وقائع عدوانهم منذ العام 1980 حتى العام 1988، انه ليس ضعفاً، وأما الدليل فهو انتصار العراق في نهاية ذلك العدوان.

وإن ما يزعمون أنه ضعف في العراق اليوم، العراق الذي يحتله الإيرانيون، أثبتت وقائع يوميات المقاومة العراقية أن النظام الإيراني كان عاجزاً عن اجتثاث روح المقاومة بتقديم خدماته للاحتلال الأميركي، حتى مع وجود مئات الآلاف من جنوده. وهذا النظام الإيراني، في هذه اللحظة، يمارس سياسة المحتل الاستيطاني الذي يعتبر العراق جزءاً من الأراضي الإيرانية، وهو في الوقت ذاته يسدي خدمات جلى للإدارة الأميركية لتقاطع المصالح بينهما. وفي الفترة الزمنية المنصرمة دخل مزهواً بقوة نفوذه على أقزام (العملية السياسية) لاستعادة المناطق التي حرَّرتها الثورة العراقية المسلحة، فحشد لها ما استطاع من وسائل القوة، ولكنه لم يرهب الثوار، بل هو الآن في وضع من ترتعد فرائصه في معارك الأنبار وصلاح الدين. ولأنه دخل طاحونة الموت العراقية، راح النظام المأفون بأوهام القوة، يستعيد جثث جنوده بطوابير طويلة لم يكن ليفكر يوماً أنه سيستقبل جنرالاته مع جنودهم القتلى بحجم تلك الطوابير التي تنشرها وسائل الإعلام.

من قبل الإيرانيين حلم الأميركيون أن العراقيين سيستقبلونهم بالورود، فأعادوهم جثثاً تنخر أشواك رصاص المقاومين أجسادهم. وهؤلاء هم اليوم كانوا يحلمون بأن جزءاً من العراقيين سيفرشون لهم السجاد الأحمر لاستقبالهم، ولكنهم يتساقطون الآن مع مضيفيهم الأغبياء بالمئات يومياً، ويعودون إلى إيران جثثاً هامدة لن يجدوا في استقبالهم سوى دموع عائلاتهم التي ثُكلت بهم. ولم يحصدوا مما زعموا أنهم يقاتلون من أجله إلاَّ الدموع والحسرات.

والنتيجة التي أصبحت ساطعة أمام عيون الشعب الإيراني هم أنهم سيتذكرون أحلاماً راودتهم في يوم ما أن العراق سيكون طوعاً لبنانهم، وأن بغداد ستكون عاصمة لإمبراطوريتهم. ولكنهم لن يحصدوا مما حلموا به أكثر من أنهم دفعوا بأبنائهم ليكونوا وقوداً في حرب زعموا أنها حرب مقدسة، وهي ليست كذلك، بل هي حرب يمكننا أن نصفها بكل شيء من الأوصاف ولكنها لن تكون مقدسة وأخلاقية وإنسانية وإسلامية، بل هي حرب خطط لها الملالي الحالمون في غيبيات عششت في مخيلاتهم. وهم سيستفيقون على أضغاث أحلام لن تصمد أمام وقائع العلم والموضوعية. لا بل سيستفيقون على مقابر تمتد على مدى البصر، تحتضن ضحاياهم ممن غرروا بهم ودفعوا بهم إلى محرقة مقدسة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

وأخيراً، نتساءل: هل كانت أحلامهم إلاَّ شبيهة بأحلام الأوروبيين الذين خاضوا حروباً مقدسة في الماضي. وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت الأماكن المقدسة محمية بحراب العرب، ولن يستطيع أن يحميها أي دعيٍّ جاء من الخارج. فالمقدسات انطلقت من أرض العرب وسوف تحميها حراب عربية، ولن يحميها أحد آخر حتى لو ادَّعى إسلاماً أو ديموقراطية.

وفي مقابل امتناع النظام الإيراني عن الإصغاء لنداءات السلام مع الجوار العربي، بل استخدم معه وسائل القوة، سيندم الشعب الإيراني، في وقت لن يطول، وينقلب على قيادته التي غامرت بكل شيء لقاء أحلام طوباوية ستذروها رياح العواصف التي تطلقها أسنة حراب مقاومة الشعب العراقي.

Dr. Amal Boussada

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *