كيف نبني الموقف الموضوعي من قضية معقَّدة؟

لكل قضية مطروحة على طاولة البحث من أجل الوصول إلى حل لها، وعلى كل من هو معنيٌّ بطرحها، لا بد له أولاً من الإحاطة بكل ظروفها من جهة، كما الإحاطة بمواقف الأطراف المشاركة فيها من جهة أخرى.

إن الموضوعية أولاً تقتضي النظر إلى القضية بعين مجردة محايدة بعيداً عن الأغراض الإيديولوجية، أو المواقف المتخذة منها من جانب واحد دون دراسة المواقف الأخرى المشاركة فيها، وهذا ما يساعد على معرفتها على حقيقتها الواقعية. ولأن الحل لن يكون حلاًّ قابلاً للتطبيق دون موافقة الأطراف المشاركة فيه، تأتي عملية التفاوض السياسي لتقريب حدود التلاقي بين تلك الأطراف.

ولأننا قمنا بدراسة الواقع العربي الراهن، ووضعنا تصورنا الوصفي لما يحيط بالقضية العربية من جوانبه التي نحسب أنها ضرورية، فإننا نضع ما قمنا بدراسته بين أيدي أصحاب القرار، لعلَّهم يجدون فيه ما ينفع حراكهم السياسي الذي يسعون لتتويجه بحلول تكون أقرب للواقعية من دون أن تمس الثوابت التي تعتبرها خطوطاً حمراء من غير الجائز أن تنزل تحت سقفها.

القضايا المعقَّدة بين التفكيك والتركيب:

تصبح القضايا في غاية التعقيد عندما تتكاثر التداخلات فيها، وتتلاقي التناقضات في نقطة أو أكثر، وهذا هو حال ما يدور الآن في الوطن العربي. بحيث وصلت القضية العربية في هذه المرحلة بالذات إلى غاية من التعقيد، ولكي نخلص شخصياً من عوامل الغموض الذي يلفها، حالة الغموض التي تجعلنا في عجز على فهم ما يجري، وكذلك في عجز اتخاذ الموقف أو قصوره عن اتخاذ الموقف الموضوعي، سلكنا منهج تفكيكها إلى فروع والفروع إلى جزئيات. ومن بعدها كان لا بدَّ من إعادة تركيبها وترتيبها من جديد.

لقد سلكنا هذا المنهج ظناً منا أننا سنتجاوز عوامل التعقيد بما يجعل القضية أقل غموضاً على طريق جعلها أكثر وضوحاً. ولعلنا ننجح في هذا المنهج لوضع تصور أكثر وضوحاً لما يجري في الوطن العربي من أجل اتخاذ موقف يكون أقرب إلى الموضوعية أكثر منه قرباً من الانفعالية.

ومن أجل هذا الهدف، قمنا في المقالين السابقين: (الحراك الدولي وانعكاساته على وضع الأمن القومي العربي)، و(الحراك الخليجي ونقطة البداية في عملية تحرير القرار العربي)، بعملية تفكيك لعناصر القضية التي نحن بصدد معالجتها، والآن سنحاول أن نقوم بعملية تركيب جديدة تأخذ بعين الاعتبار تحديد موقف مما يجري انطلاقاً من الحراك الدولي الجديد نزولاً إلى الحراك الخليجي الجديد في محاولة لاستخلاص نتائج جديدة تتجاوز ردات الفعل التي تغلَّف المواقف السائدة في الكثير من الأحيان من فهمنا للحراك الروسي منذ بداية الأزمة السورية، وكذلك من فهمنا للحراك الخليحي. وتأتي المواقف المستندة إلى ردود الفعل ضد السياسة الروسية التي يساويها البعض بالموقف من السياسة الأميركية، وكذلك المواقف ذاتها المستندة إلى اتهام دول الخليج العربي بالرجعية المتواطئة مع الأميريالية الأميركية.

لا فائدة من خطاب سياسي أو فكري خالي المحتوى من أفكار تساعد على وضع المواقف والحلول:

آخذاً بعين الاعتبار ما كتبه بعض من أحترمهم من ملاحظات وتعقيبات على المقالين المنشورين، وهي ردود وصفية لواقع يعتقدون أنه غير قابل للتغيير، ولكنها لم تعتن بالتفتيش عن حل، بينما نحن بحاجة للمساعدة في وضع حل لأكبر مأساة يمر بها وطننا العربي الكبير. لذلك أتوجه إلى كل من يعنيه أمر الأمة العربية ، والذي تعنيه المساعدة في وضع تصور واضح لحلول لتلك القضية المصيرية، قائلاً: إن الوقائع ليست دائماً هي ما نتمناه، بل تكون أحياناً كثيرة على العكس مما نتصوره. ولأن وضع حل أو مجموعة من الحلول لقضية يتشارك فيها طرفان أو أكثر، إنما يستند إلى واقع القضية التي نهتم بها سيان كانت تتوافق مع رغباتنا أم تتعارض معها، كان لا بُدَّ من أن نضع تلك الوقائع في صلب اهتمامنا.

ولذلك آخذين بعين الاعتبار أيضاً تعقيد القضية العربية في هذه اللحظة يضعنا أمام حقيقة لا راد لها ومضمونها الواقعي هو كثرة اللاعبين والعابثين والراكضين وراء المصالح الخاصة. وإذا عرفت اتجاهات الشركاء في هذه القضية أو تلك فعليك أن لا تهملها وإلاَّ فإنك لا تسعى إلى حل. وهنا، ولأننا شركاء معنيين، نحن والآخرون على كثرتهم، علينا أن نعرف كيف يفكر الآخرون ومعرفة الشروط التي يضعونها من أجل أن تكون نتائج التفاوض مجدية.

ولذلك،

ولأننا متمسكون بثوابت لا تفرط بحقوقنا المشروعة، وهي ما نطلق عليها تسمية الخطوط الحمر التي لا يجوز تجاوزها والتنازل عنها. تلك الحقوق التي إذا لم نحصل عليها ستكون نتائج التفاوض مع الآخر أو الآخرين عبثية ومضيعة للوقت.

بين الاستراتيجيا والتكتيك مساحة يملأها فن التفاوض السياسي:

ولأن عملية التفاوض السياسي هي أقصر طريق للوصول إلى حلول. على المفاوض أن يمتلك حرية الحركة ضمن الضوابط التالية:

-الأول: رفض الاحتلال، أو نوايا الاحتلال من أية جهة أتى.

-الثاني: ضرورة التمييز بين ما هو تناقض رئيسي، وما هو تناقض ثانوي.

-الثالث: التضحية أحيانا بما هو تكتيكي لمصلحة ما هو استراتيجي.

علماً بأن استراتيجية المقاومة الوطنية العراقية الثابتة، كما حددها المنهج السياسي الاستراتيجي، والذي لا يمكن التنازل عنها، أو التفاوض حولها، تنص على مبدأ تحرير العراق تحريراً شاملاً وكاملاً من كل احتلال، وإسقاط أي عملية سياسية انتجها الاحتلال. فإن المقاومة العراقية لن تشارك بأي طاولة للمفاوضات تنزل دون هذا السقف.

وعلماً بأن الاحتلال الإيراني للعراق هو التناقض الرئيسي في هذه المرحلة. تعتبر قيادة المقاومة العراقية أي دعوة للتفاوض السياسي مقبولة سواءٌ أتَّمت بشكل مستقل، أو بمساعدة عربية أو دولية أو إقليمية أو بضمانات منها، وهي تعمل من أجل ذلك على شتى الصعد العراقية الداخلية، أو العربية، أو الدولية. ولأن الحراك الخليجي حدَّد خطوطه الحمراء، وحصرها بمهمة رئيسية في تحرير الوطن العربي من أي دور إيراني توسعي، وجدت المقاومة العراقية أن هناك نقاط التقاء استراتيجية مع الحراك الخليجي، وهي حريصة على استثمار هذه الفرصة والاستفادة منها.

الخطوط الحمراء على طاولة الحراكين الروسي والخليجي:

واستناداً إلى المبادئ الواردة أعلاه، سنستكمل الموقف الذي حددناه في المقالين السابقين، وسنقوم بتحديد ما هو استراتيجي في الحراك الروسي من جهة، وما هو استراتيجي في الحراك الخليجي من جهة أخرى. وللمساعدة أكثر سنوضح ما هو ممكن التنازل عنه في كل مسألة في حينها.

-أولاً: الدفاع عن وجودها في (المياه الدافئة) ثابت رئيسي في الاستراتيجية الروسية:

خلافاً لكل التوقعات التي كانت تنحو باتجاه المراهنة على أن الروس قد يساومون الأميركيين على رأس النظام السوري، نجد أن شيئاً من تلك المراهنة لم تحصل. كما يبدو أن أية مساومة لن تحصل أيضاً، وأما السبب فهو أنه لا بديل لروسيا عن سورية لأنها المنفذ الوحيد لها في (المياه الدافئة). وهنا لا يسعنا إلاَّ أن نستعيد إلى الذاكرة ما عُرف في تاريخ الصراع الروسي – الأوروبي بـ(المسألة الشرقية)، وهي المسألة التي دخلت التاريخ كثابت من الثوابت الروسية في المحافظة على مصالحها في الشرق العربي منذ عهد القياصرة مروراً بالاتحاد السوفياتي انتهاء بروسيا الحالية. وهنا ليس من المهم أن يكون النظام في روسيا مع حرية الشعوب أم لا يكون لنحجز له مقعداً في أية حلول لقضايانا، فهو أمر واقع لا يمكن تجاوزه في معادلة التوازن الدولي التي بدأت مظاهرها الأولى منذ سنوات قليلة. ويمكننا الاستفادة من هذه المرحلة كلما لاح في الأفق بصيص أمل نستند إليه.

وإذا كنا لن نقيس المواقف الروسية على مكاييل المسألة الشرقية كثابت تاريخي من ثوابت المصلحة الروسية، فإنما الأحداث والوقائع التي توالت على سورية، منذ أكثر من أربع سنوات، أثبتت مصداقية الدور الروسي باعتبار المسألة الشرقية ثابتاً دائماً في تفسير السياسة الإقليمية الروسية، والذي بناء عليه حافظت على دورها في حماية النظام السوري من السقوط. ووقائع الأيام التي مضت مما سُمِّي بالتدخل الروسي جوياً في سورية أكَّدت مصداقية الاحتمالات التي كانت تتوقع استمرار روسيا في دعم ومساندة وحماية النظام السوري.

من كل ما ذكرنا، بشكل مكثَّف، نستدل على أن منع سقوط النظام السوري هو خط أحمر روسي. والدليل على ذلك أن الدور الروسي استمر على زخمه المعهود بعد اللقاء السعودي الروسي الذي قدَّم للروس إغراءات لم يكونوا يحلمون بها.

-ثانياً: الدفاع عن أمنها القومي ضد (التغلغل الإيراني) ثابت رئيسي في الاستراتيجية الخليجية:

على الرغم من الأخطاء التي ارتكبها النظام السياسي الخليجي بحق العراق، والتي أوضحنا أسبابها في المكان المناسب من مقالنا الثاني، أو في مقالات أخرى سابقة. تعتبر المقاومة العراقية أن خلافها السابق مع أنظمة الخليج الرسمية كان عائداً إلى الموقف من الاحتلال الأميركي. وإنه في الوقت الذي توقعت فيه المقاومة أن يقوم النظام الإيراني لاحقاً، متستراً بالاحتلال الأميركي، بدور خطير على الأمن القومي العربي عامة وعلى دول الخليج العربية بشكل خاص، وكان توقع المقاومة عائد لمدى إدراكها لخطورة أيديولوجية نظام (ولاية الفقيه)، كانت أنظمة الخليج الرسمية غافلة عن إدراك مدى تلك الخطورة. وهذا يؤشر إلى أن التناقض في الموقف مع دول الخليج هو الذي حفر فجوة كبرى في العلاقات بينهما، وليس لأي سبب آخر.

وحيث إن أنظمة الخليج وعت أخيراً خطورة دوره راحت تبني مواقفها من النظام الإيراني على المقاييس ذاتها التي بنت عليها المقاومة العراقية موقفها، مما أدى إلى التلاقي في المواقف، وهذا التلاقي فتح الأبواب لحوار عراقي وطني وخليجي من أجل مواجهة الخطر الإيراني معاً، وهذا الواقع أكدته دعوة المعارضة العراقية إلى لقاء الدوحة في الشهر الماضي.

وكل تلك الوقائع قادت إلى أن دول الخليج العربي، رسمياً وشعبياً، اختارت طريق المواجهة الاستراتيجية مع النظام الإيراني، كما سلكت تلك الدول طريق المواجهة وليس النزول تحت سقفها شبراً واحداً. وبذلك نستطيع اعتبار الدفاع عن أمن دول الخليج في مواجهة النظام الإيراني خطاً أحمراً لن تقبل النزول تحت سقفه.

-ثالثاً: هل أصبح الحل السياسي بين الحراك الروسي والحراك الخليجي أمراً ممكناً؟

إذا كنا قد حصرنا الكلام عن الحراك الروسي والحراك الخليجي فإنه عائد إلى كونهما حراكين جديدين واستراتيجيين لهما منتهى التأثير على القضية العربية. فالأول اخترق حالة السكون الدولي من أجل توليد نظام دولي تقوده تعدديات قطبية، وأما الثاني فقد اخترق حالة السكون القومي العربي وانتفض أخيراً ليقف في مواجهة المد الإيراني. وإذا كنا نراهن على ولادة مرحلة جديدة على المستويين الدولي والعربي فإننا نراهن على هذين المتغيرين. ولا يمكننا المراهنة على حلول سياسية من دون تعاون وثيق بينهما، وإنه لا تعاون وثيقاً بينهما من دون ردم الهوة بينهما التي تملأها الخطوط الحمر وفي المقدمة منها خطان أحمران، وهما: الموقف من النظام السوري المدعوم روسياً والمرفوض خليجياً من جهة، والموقف من النظام الإيراني المتحالف مع روسيا والمرفوض خليجياً من جهة أخرى. ولهذا كله نتساءل: كيف يمكن ردم تلك الهوة؟

قبل الخوض في إبداء الرأي الذي يساعد على تحديد موقف سياسي أقرب للموضوعية والواقعية والذي يضمن عدم اختراق الثوابت، ومنع تجاوز الخطوط الحمراء، يمكننا أن نحدد ما هو استرتيجي في مشروعيْ الحراكين الروسي والخليجي، ومن أجل ذلك نرى ما يلي:

-الموقف من حماية النظام السوري هو من ثوابت المشروع الروسي لعلاقته بالاستراتيجية الروسية، في الوقت الذي يشكل فيه هذا الموقف، كما نحسب، موقفاً سلبياً مرحلياً لدول الخليج العربي يزول بزوال أسباب ارتباطه مع النظام الإيراني. فتلك الدول دخلت معترك الصراع معه لأسباب إيرانية، إذ اعتبرت أن بقاء النظام السوري يساعد على بقاء التأثير الإيراني في الوطن العربي. وفي العودة إلى العلاقات السعودية – السورية قبل الانسحاب الأميركي من العراق تأكيد على حسنها، وليس أكثر دلالة على ذلك من معادلة (س – س) الشهيرة في تاريخ تلك العلاقات. وباختصار، نحسب بناء على استنتاجاتنا من قراءة ما هو ظاهر وما هو مخفي، أن دول الخليج قادرة على تغيير موقفها من النظام المذكور إذا أُلغيت أسبابه الإيرانية.

-وأما الموقف من إبعاد تأثير النظام الإيراني على الأمن القومي العربي، فأصبح من ثوابت دول الخليج العربي الاستراتيجية. فدول الخليج تعتبر أن الدور الإيراني يمثل غاية الخطورة على أمنها، ولا يمكنها قبول أي حل آخر غير إخراج النظام الإيراني من دائرة التأثير على الأمن السياسي والعقائدي العربي. أي هو خط أحمر لا يمكنها النزول تحت سقفه. وهذا ما يثير التساؤل: ما هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه الموقف الروسي من هذه المعضلة؟

وبدلاً من الإجابة سلباً أو إيجاباً، سندع المقارنة بين المشروعين الروسي والإيراني تحدد تلك الإجابة، ولذلك نرى أن قراءة لأهداف كل منهما الاستراتيجية ضرورة تساعدنا على فهم مساحات التلاقي ومسافات التباعد بين المشروعين المذكورين.

أولاً: مساحات التلاقي: ونستطيع تحديدها بالجوانب التالية:

1-في ظل اعتبار تركيا عضواً في حلف الأطلسي، كانت العلاقات الروسية – الإيرانية مكسباً روسياً، وبها تحقق روسيا توازناً استراتيجياً مع أميركا في العلاقات الإقليمية المجاورة للوطن العربي.

2-المصالح الاقتصادية المتبادلة بين روسيا وإيران تتمثل بالتبادل التجاري في الحقول المدنية.

3-مصلحة روسيا باعتبار إيران مستورداً للتكنولوجيا العسكرية من جهة، واستيراد الأسلحة الروسية الصنع من جهة أخرى.

4-تلاقي المصالح الروسية والإيرانية في دعم النظام السوري في هذه المرحلة حتى وإن كانت أهدافهما من ذلك الدعم غير متطابقة. ففي بقاء النظام السوري حاجة لكل من الدولتين. وعن الاختلاف في الأهداف سنفرد لها حيزاً في الفقرة اللاحقة.

ثانياً: مسافات التباعد: ونستطيع تشخصيها بالجوانب التالية:

1-تلعب إيران دورين متناقضين، وهما:

أ-علاقة إيرانية ترقى إلى مستوى المشاركة الكاملة مع الولايات المتحدة الأميركية في احتلال العراق من جهة، وفي حماية العملية السياسية في العراق من جهة أخرى. لقد شُيِّدت هذه العلاقة على الرغم من أن النظام الوطني السابق كان شريكاً كاملاً للاتحاد السوفياتي قبل انهياره وانتقلت إلى علاقات متينة مع روسيا بعد انهياره. وهنا لا ننسى أن امتناع روسيا، بتوافق ألماني وفرنسي، عن التصويت على قرار إعلان الحرب على العراق، قد أحبط الأهداف الأميركية – البريطانية باحتلال العراق بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي. وأما لماذا لم تستخدم حق النقض حينذاك فله مدلولات وأسباب أخرى.

بـ-علاقة إيرانية ترقى إلى مستوى المشاركة الكاملة مع روسيا في حماية النظام السوري من السقوط في دوائر الاحتواء والهيمنة الأميركية.

من خلال التعمق في دراسة الازدواجية الإيرانية في العمل على إسقاط النظام العراقي لمصلحة الاحتلال الأميركي من جهة، وفي العمل على حماية النظام السوري من السقوط في أيدٍ أميركية من جهة أخرى،

ومن خلال معرفة أن النظامين المذكورين كانا من المحسوبين على الاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا،

يتبيَّن أن النظام الإيراني يسلك كل الطرق الملتوية، ومنها تزويج المتناقضات بين الشرق الروسي والغرب الأميركي، من أجل تحقيق مشروع ثالث له أهداف أخرى غير أهداف الشرق والغرب. ولكنه يتبع تلك الطرق الملتوية محاولاً الاستفادة من خدمات الطرفين الروسي والأميركي. ونحسب أنهما معاً، الطرف الروسي والأميركي، ليسا غافلين عن تلك الأهداف، ولكنهما يستمران في بناء علاقات مع النظام الإيراني لأنهما معاً، كل منهما ضمن أهدافه، يستفيدان من خدماته التي يقدمها لكل منهما.

إننا نقوم بالتذكير بهذا الأمر لكي نخلص إلى نتيجة أن الشرق والغرب لن يأنسا إلى تلك العلاقة، ففي نفس كل منهما أن يرتد على علاقاته مع النظام المذكور عندما تحين الفرصة المناسبة، وعلى الخصوص نستفيد من هذه الحقيقة من أجل البرهان على أن علاقات روسيا مع النظام الإيراني هي علاقات مرحلية تنتهي ببداية وجود بديل موثوق في منطقة (المياه الدافئة).

2-المشروع الأيديولوجي الأصولي للنظام الإيراني يتناقض كلياً مع المشروع العلماني الروسي.

أ-لا نظاماً بديلاً في روسيا عن النظام العلماني: على الرغم من حسابات البعض بأن روسيا راعية للمذهب الأرثوذكسي المسيحي، فإن النظام الروسي، كما تدل كل الوقائع والحسابات، لن يحيد عن المبدأ العلماني والمدني. وروسيا أيضاً تخشى تمدد الأصولية الدينية السياسية، ومنها الأصولية الإسلامية، وما وقوفها بحزم ضد ظاهرة الحركة الشيشانية، وغيرها من الحركات الأصولية الممكن انتشارها في عمق الدول المحسوبة على روسيا. وكما أن سبب حماية النظام السوري من السقوط إنما يعود أيضاً إلى الخوف من وصول الحركات الأصولية التي تقاتل النظام في سورية إلى استلام الحكم فيها، خاصة وأن خطرها الداهم كان يتمثل بحكم الإخوان المسلمين في تونس وفي مصر، التي سيزداد خطرها على الأمن الداخلي الروسي في حال تواصل الحركة الإسلامية في تركيا وفي سورية. ومن كل ذلك نصل إلى نتيجة أن النظام الحاكم في روسيا لن يكون مرتاحاً لوجود حركات أصولية دينية، لا بل إنه يشعر بمدى خطورة الوصول إلى واقع مشابه لما قمنا بوصفه.

بـ-لا نظاماً بديلاً في إيران عن النظام الثيوقراطي الأصولي:

بعد أن كتبنا الكثير عن الأسس الفكرية لنظام ولاية الفقيه، يغنينا ما كتبناه سابقاً عن التفصيل. ولكن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن روسيا تجد في مشاريع الحركات الدينية السياسية خطراً مرحلياً واستراتيجياً. ولأن المشروع الإيراني هو أحد مشروعين استراتيجيين دينيين، والآخر هو مشروع حركة الإخوان المسلمين وما تفرَّع عنها من تيارات داخل الحركة، تنظر روسيا خارج التحالفات الراهنة بمدى تلك الخطورة، لأن وجود أحدهما يبرر وجود الآخر. ولا يمكن درء مخاطرهما إلاَّ بالعمل على إلغائهما معاً.

جـ-استمرار علاقة روسيا مع النظام الإيراني لا يستقيم مع مصلحتها بتوسيع علاقاتها العربية:

انتقلت الصراعات العربية –الإيرانية من سقف الأحلاف السياسية والعسكرية الضارة بالأمة العربية في عهد الشاه إلى صراعات وجودية بعد تأسيس دولة ولاية الفقيه بعد العام 1980. ولأن أهداف دولة ولاية الفقيه التوسع الجغرافي والديموغرافي على حساب جيرانها تطبيقاً لمبدأ (تصدير الثورة، أخذت تمثل خطراً وجودياً على الأمة العربية، لأن تصدير الثورة يعني إلغاء الحدود الجغرافية من جهة، وإعادة تركيب سكاني جديد تنسخ فيه دولة ولاية الفقيه كل انتماء قومي وديني للشعب العربي من جهة أخرى. ولأن الأهداف النظرية انتقلت إلى ميدان التطبيق المتسارع بعد توكيل النظام الإيراني بإدارة الساحة العراقية، كان لا بد للعرب بشكل عام ولدول الخليج العربي من الوقوف بحزم ضد المشروع الإيراني.

ولأن المصلحة الروسية تتمثل بالعمل للحصول على أوسع علاقات إيجابية مع الدول العربية، لكن عملها سيكون مستحيلاً في ظل استمرار العلاقات الروسية – الإيرانية. وبناء عليه نستنتج أن العلاقات الروسية – الإيرانية ليست أكثر من علاقات مرحلية تنتهي بانتهاء الحاجة المؤقتة إليها. وهي جاهزة للتغيير عندما تحصل روسيا على البديل في علاقات عربية – روسية جديدة. وإن الأفق يحمل إمكانيات حصول متغير ما، ولعلَّ أهمها العلاقات مع السعودية ومصر، في حين أن المستقبل يحمل وعوداً أكثر في مرحلة ما بعد تحرير العراق من الاحتلالين الأميركي والإيراني.

وفي الإجمال تشكل العلاقات الروسية مع نظام ولاية الفقيه في إيران عبئاً ثقيلاً على روسيا ستزيحه عن صدرها في الوقت المناسب لاعتبارات إيديولوجية وسياسية وديبلوماسية.

الختام في التساؤل عن احتمالات ما سيحمله الغد:

وختاماً ننهي دراستنا هذه بلا جواب، وإنما نختتمه بتساؤل نرفعه إلى مقامات القوى الفاعلة المعنية بتحديد الموقف واتخاذ القرار، فنقول التالي:

إن أية مفاوضات مع الروس مبنية على رفع حمايتهم عن النظام السوري لن تنفع شيئاً ولن تشكل بديلاً، لأن عصفوراً واقعاً في يدهم أثمن من مئة عصفور على الشجرة.

كما أن أية مفاوضات مع العرب لن تنفع شيئاً إذا لم تلعب روسيا دوراً في لجم الاجتياح الإيراني ومنعه من العبث بالأمن القومي العربي.

وكما أن أية مفاوضات مع المقاومة العراقية لن تنفع شيئاً إذا لم يتم تحرير العراق بشكل تام من الاحتلال الإيراني ومن أي وجود أميركي.

وهذا يقودنا إلى الاستطراد في الكلام عن العلاقات الروسية – الإيرانية، وهي الإشكالية الكبرى التي تجعل التفاوض حذراً مع الروس من قبل دول الخليج أم كان من قبل المقاومة العراقية. فكيف ننظر إلى هذه الإشكالية، ونتساءل: هل يمكن فتح ثغرة في هذه البوابة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *